وأظلمت الشرقية برحيل بوابة العلم فيها "فضيلة الشيخ: سلطان بن حمد العويد رحمه الله"
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على قائدِ الغُرِّ الـمُحجَّلين، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصَحْبه ومَن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدِّين..
فإنَّ الله سبحانه وتعالى يصطفي مِن عباده مَن هُم أهلاً للعلم وحـَمْله، يحملونه ويُحمِّلونه، وإذا أتبعتَ نظرك في تاريخ رجالات هذه الأمة؛ ظفرتَ بعلماءٍ أحيا الله سبحانه بهم سِيَر سلفنا الصالح؛ فجدَّدوا معالِـم الدِّين، وأرْسَو رايات الـمُصلِحين، حتى غَدَو مشاعل علم، ومصابيح دُجى في الليل البهيم.
وإذا رأيتَ سيرة العلماء الرَّبانيين، ثم رأيتَ النَّهل مِن معين آثارهم المكين، رأيت نُبوغاً عِلْميَّاً، وعبقرية مأمولة، ونَعِمتَ بالرُّقيِّ في مدارج الرَّبانية في شتى ميادينها.
وصَدق الإمام محمد الخضر حسين رحمه الله، إذ يقول: "ومن مُهيِّئات النُّبوغ: قراءة مؤلَّفات النابغين في العلم بعد الاطلاع على دراسة الكتب التي تسوق المسائل مجرَّدة من أدلتها، غير منيَّة بالغوص على أسرارها، وإنما يُرجى منه النُّبوغ متى وُضِعت تحت نظره كُتبٌ يرى مؤلِّفيها كيف يستمدُّون آراءهم من الأصول العالية، ولا يُوردون مسألة إلَّا بعد أن يُعزِّزوها بالدليل، ومن مهيئات النُّبوغ: مطالعة تراجم النَّابغين المحرَّرة بأقلام تشرح نواحي نبوغهم، وتصف آثاره، نحو: مؤلفاتهم المنقطعة النظير، ثم ما يخصُّه بهم عظماء الإسلام من تقدير وتمجيد" [1].
وبعد: ترعرعتُ منذ صغري قبل عقدين من الزمن، وأنا طالبٌ في المرحلة الابتدائية في مجالس العلم والإيمان في ذلك الجامع؛ جامع فيصل بن تركي بالدمام، وانطلقتُ من مكتبته المباركة، فتى طموحاً يافعاً، وقد حرص على تربيتنا واستقامتنا ثُلَّة من الأساتذة الفضلاء والـمُربِّين النبلاء، جزاهم الله كلَّ خير نظير ما قدَّموه لنا في التربية والإيمان والدعوة، أمَّا الجامع فالأضواء كانت فيه خافته، والساحات مهجورة، وجماعتُه في الصلاة بين صف أو صفين، ومرافقُه خاوية على عروشها، بل حتى صلاة الجمعة، كان الجامع لا يمتلأ!
وهكذا تمضي السُّنون والجامع على هذا الحال من عدم الاهتمام، وإن شئت فقل من انعدام رسالته المجيدة، التي قد كانت في زمن الرَّعيل الأول مَهْداً الانطلاقة الكبرى في ربوع الدنيا.
وفي طليعة يوم، إذ بذاك الرُّكام من الغبار على سجادهِ يزول، ومرافقه من مكان الوضوء ومواضع الخلاء التي كانت مستودعاً للنفايات والكتابات على جدرانه وأبوابه تُمحى، ثم ما أن تلبث حتى ترى أن ساحاته الخارجية تُنظف، ويُعتنى بها، ما الذي حصل؟!
وأيُّ شيء هذا الذي يُنعش المسجد من جديد؟ أضاءت جنباته في كل مكان، وبدا وكأنَّ الجامع المألوف غير مألوف سبحان الله! ما الأمر؟ حتى إذا حان موعد صلاة، فإذا بذاك الشيخ طويل القامة، أبيض اللون، يؤمُّ المصلين ويكبر، فما تسمع إلَّا صوتاً ندياً، وترتيلاً أخَّاذاً يأخذ بلُباب القوم، فكان ذاك الإمام الشيخ (سلطان العويد) شآبيب رحمة الله تعالى عليه، قدم للجامع، بإشراقة وجهه الـمُنوَّر بنور من الله، فأضفى بنوره نوراً للجامع، ثم للحيِّ، وثم للمنطقة بكاملها.
وهكذا العلماء الرَّبانين، حيثما نزلوا واستوطنوا، يبارك الله تعالى بهم، فيُشَعْشِع النُّور بعلمهم وفضلهم وبركتهم، وحينها أجدك تذكر معي بصدق مقولة الإمام أحمد رحمه الله حين قال: "الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمان فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، يَدْعُون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويَصْبِرون منهم على الأذى، يُحيُون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرُون بنور الله أهل العَمَى، فكم مِن قتيل لإبليس قد أَحْيَوهُ، وكم من ضالٍ تائهٍ قد هَدوْهُ، فما أحسن أثرهم على الناس.." [2].
وتجد بحقٍّ قولة الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله، يوم قال: "ولولا ضمان الله بحفظ دينه، وتكفُّله بأن يُقيم له مَن يُجدِّد أعلامه، ويحيي منه ما أماته الـمُبطِلون، ويُنعش ما أخمله الجاهلون؛ لـهُدِّمت أركانه، وتداعى بنيانه، ولكنَّ الله ذو فضل على العالمين" [3].
وتُبصر بيقين معي ما قال الشيخ العلَّامة بكر أبو زيد رحمه الله يوم قال: "فما مِن عصر إلَّا ويقوم فيه في كلِّ ناحية وصِقْع رجالٌ ما ساروا مَسيراً ولا قالوا مَقِيلاً إلَّا كانوا مع الدِّيانة الإسلامية حيث كانت منازلها، وساروا معها حيث كانت رَكائبها ، يدلُّون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويكشفون طُرق الغيِّ والرَّدى، فقضوا على الموامرات في مَهْدها بكبت كلِّ نَزْعةٍ وكسر كلِّ قوة، وفـلِّ جموع الضلالة؛ إحياء للسُّنن وإماتة للبدع وحراسة لمواريث الإسلام، والذبّ عن قضاياه، فبدت محجَّة الإسلام نقيَّة خالصة مِن شوائب التقليد والوثنية والطائفية" [4].
لقد أفاء الله على الشيخ أنْ زاده بسطة في العلم والجسم، فقام بزكاة علمه خير قيام، وبدأت رسالة المسجد المباركة تعود من جديد، فجدَّد الله به معالمه، وأرسى معارفه، وغدت خُطب جامعه كعبة للطالبين، ومَنْهلاً للمفيدين، ثم ما لبث أنْ شُرِّعت أبواب العلم على يديه، وفُتِّحت كتب العلماء بين يديه، وقصده البعيد قبل القريب، والتزم دروسه الموافق والمخالف، فنفع الله به، وبارك بعلمه وعمله.
أقبل على الناس بالعلم والفِكْر والأخلاق والدعوة الحسنة، فأقبلوا عليه عطاشاً يَرِدُون حياضه الغنية، بالإيمان والأعمال الصالحة، والدلالة المتزنة الرصينة للهداية الربانية.
فمن منَّا لم ينتفع من خطبه الرَّنانة النافعة، والتي كانت سرعان ما تنتهي صلاة الجمعة إلَّا وتجد خُطبَه مسجلة، وقبل العصر تُباع هنا وهناك في التسجيلات الإسلامية؟ ومن منَّا لم يكن يطرب سمعُه، ويترنَّم فؤاده من جميل تلاواته المباركة الخاشعة؟
أين الذين كانوا يُواظبون للصلاة معه لسماع كلماته ودروسه ووقفاته، لله ما أجمل تلك الكلمات في عصر كل رمضان، يتنقَّل بك من فائدة علمية إلى وقفات إيمانية، ونحو إشراقات في كتاب الله ندية.
ولله كم هي لطائفه في التراويح ما بين قصة لطيفة، وموقف ظريف طريف، وفائدة تربوية، وحرقة دعوية، أو عَبرات وعِبارات من جميل تلك التلاوات، أين طلبة العلم الذين كانوا ينشطون لحضور دروسه القديمة، في التفسير (التسهيل لعلوم التنزيل) لابن جزي، وفي العقيدة (معارج القبول) للحكمي، والحديث جامع (العلوم والحكم) لابن رجب، وفي الفقه (منار السبيل) لابن ضويان.
كم كان فيها من عزيز الفوائد، وجميل الفرائد، يسير معك في العلم رُتْبة رتبة، ويعطيك بقدر ما تحتاجه أنتَ لا بما يعرفه هو، مما يجعلك تُوقن أنَّ العالـم الرَّباني: الذي يُربِّي الناس على صغار العلم قبل كباره.
وأين أولئك الذين كانوا يتسابقون يومياً لصلاة العشاء في جامعه -ولو تباعدت أمكنتهم- لجميل حديثه الشيِّق والغني بالعلم والمعرفة، آه يا شيخنا مَن لتلك المجالس بعدك؟
لعَمْرُك ما الرَّزية فَقْد مال *** ولا شاة تموتُ ولا بعيرُ ولكنَّ الرزيةَ فَقْدُ شخص *** يموت بموته خَلْقٌ كثيرُ
نعم لقد أحيا الله بالشيخ رحمه الله أموراً كثيرة، وجدَّد وغيَّر أحوالاً نافعة وصالحة وفيرة، فانتفع به كثيرٌ من الناس، وكان محلَّ قبول عند الجمع الغفير منهم، وقد كان مِن أبرز ما عُرف عن نشاط شيخنا رحمه الله تعالى وتميزه في سنيِّه تلك العامرة بالعلم والإيمان والعمل: الخطابة الفريدة، والتعليم النافع، والدعوة الصادقة.
ففي الخطابة: كان خطيباً من الطراز الفريد، ينتقي مواضيعه بإحكام ودقَّة، ويعالج مشكلات مجتمعه بمنهج فريد، تشعُر فيها باللَّهجة الصادقة، والحرقة على الإسلام والمسلمين.
وفي خُطبه: يجمع لك الآيات الكريمات، والأحاديث الصحيحات، والأشعار الرائقات، والأمثال النافعات، فينتفع منه العالم، والمتعلِّم، بل والعامي، ويُعطي كلَّاً حاجته ومسألته من الغذاء الإيماني والتربوي، بأسلوب سهل ممتع، وفي زمن قصير، لكنَّه قد حوَى الكثير، كان رحمه الله مميزاً في طرح الجديد بأسلوب القصة الهادفة، والقدوة الحسنة، والمعالجة الشرعية لقضايا الناس العملية.
ومما لاحظته بنفسي: احترامه لعقول الناس ومستمعيه، فمن رُزِق لساناً وبياناً مثل الشيخ رحمه الله بإمكانه أن يخطب عشرات الخطب بتحضير بضع ساعات قليلة، ولكنه مع ذلك كان يجتهد في تحرير خطبه، وتدوين عناصرها.
ومما أفادني ذلك منه رحمه الله: أن كان ثمة ترتيب لزيارة الشيخ عصر الجمعة، وكنت أعلم بسفر الشيخ رحمه الله، وجعلت علامة الوصول وتأكيد الموعد خطبة الشيخ، فلما رأيتُ أن الخطيب غير الشيخ علمتُ أن الشيخ لم يزل في سفره، وقلت لا موعد اليوم، فلما كان بعد العصر، فإذا بالشيخ يتصل، وخطر لي أن الشيخ يتصل للاعتذار عن الموعد، فأحببتُ عدم إحواجه لذلك، فلما كرر الشيخ أحببت الجواب، فإذا به قد عاد من سفره في صباحاً! وينتظر الموعد، فكنت في موقف لا أحسد عليه من سوء تقديري، فلما ذهبتُ للشيخ رحمه الله، وأخبرني بوصوله مبكراً، سألته عن عدم الخطبة، وأنه لم يستطع ذلك، قال بما معناه: "تعلم أني أستطيع، ولكن يجب أن تحترم عقول الحاضرين، وتقدِّر ذلك ممن يأتي من مكان بعيد، فمن المعيب أن تعيد عليه ما قد علمه وطرح عليه"!
فانتفعتُ بذلك والله كثيراً، ولتجد صدق هذه الفائدة في حياة الشيخ، قلِّب النظر في كثير من خطبائنا اليوم تجد القليل إلا من رحم الله من هم على هذا الحس الدَّعوي وأمانة الكلمة، ولذا باتت فائدة خطب الجمعة عندنا ضعيفة إلا من رحم الله، وقليل ما هم.
والشيخ المعلم رزقه الله العلم النَّافع، والاطلاع الواسع؛ فأحسن نشره بين الناس، ومنَّ الله عليه مِن الهيبة والعلم والفضل ما الله به عليم، صدَق مع الله في العلم؛ فصدق الله معه ففتح له قلوب الناس بالمحبة والإقبال، كان حريصاً على العلم بحُسْن الفهم وإصلاح العمل، والاجتهاد فيه بإخلاص وصدق مع الله، ومرة استنصحته في مسالك العلم فنصحني نصيحة أجد نفعها إلى يومي هذا والله.
ثم بعد أيام اتصل بي يخبرني بأنَّ ورقة لي عند المؤذن الشيخ (يوسف) جزاه الله خيراً لي، فذهبتُ إليه، فإذا هي كلمات رائقة في العلم والطلب، قيَّدها بخطه الجميل، احتفظ بها إلى يومي هذا في مكتبتي بالدمام، علق في ذهني منها ولا أنساه أبدا، من قصيدة أبي إسحاق الإلبيري في نصحه لولده:
ووضع خطاً تحت البيت الأخير، وكتب لي تحته: "فمن صدَق الله في ذلك، بلَّغه الله منزلة عليَّة، ورزقه الذِّكر الحسن، وبقدر إخلاصك وجدِّك واجتهادك تترق في ذلك"، ومن جميل أثر تلك الكلمة عليَّ، نشرتُ بعضاً منها في مجلة في أحد المراكز الصيفية التجارية -مجلة الصفوة- وقد استمرت هذه النصيحة معي في حياتي بحمد الله، ووالله كلما ذكرتُها انتفعتُ بها، وقد كانت حافزاً لي للوصول إلى (ورقة علمية) لا تقدم كثيراً ولا تغني البتة عن مجالس العلماء وثني الركب، وهي (د.) والواقع المرير اليوم يصدق ذلك في كثرة من نالها وهم أوهن من بيت العنكبوت، والله المستعان.
نعم لقد كان الشيخ رحمه الله يحب العلم، ويهتم بالعلم، ويعتني كثيراً بأثر العلم في حياة الفرد والمجتمع، ويحذر كثيراً من العلم الذي يكون وبالاً عليك يوم القيامة.
وذات يوم استشرته مرة في القراءة على أحد مَن رُزق علماً بلغ به منصباً عالياً؛ فقال لي ناصحاً: لن تنتفع منه، ثم قال: ولقراءتك واجتهادك بمفردك خير لك منه، ثم أبان لي ذلك بما سرني كثيراً ، ووجدت صدقه مع الأيام والليالي ممن كان يذكر في مجالسه أنه تلميذ لذاك، وهو قليل البضاعة جداً، ولا أثر عليه في القراءة عليه، فحمدت الله لتلك المشورة التي اختصرت عليَّ كثيراً من الوقت والجهد.
والشيخ الداعية المخلص: أمَّا عن الدعوة فحدِّث ولا حرج، له نصيب وافر جداً في ذلك، وحيثما حلَّ وارتحل في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها، ينشط للدعوة إلى الله تعالى، والعبرةُ بالإخلاص والهم، لا بالكثرة والكم، فقليلٌ بإخلاص خيرٌ من كثير دون ذلك، فكيف لو كان كثيراً وكثيراً ومع الإخلاص لله تعالى، والبعد عن الثناء والذكر الجميل، نحسبه والله تعالى حسيبه، وهذا الباب عند الشيخ كبير وجليل، وستذكر الأيام عِظَم هذا الباب عند الشيخ رحمه الله، ممن كان رفيقاً له في سفره أو في عمله مما شاهد وخبر الكثير مما غاب عنَّا.
إن الحديث عن الشيخ يطول، وكيف لا يطول والشيخ كان ملء السمع والبصر علماً وعملاً وخلقاً وتربية وربانية، مع تواضع ولين جانب وبذل للمعروف وخدمة للعلم وأهله، غير أني في ختام هذه الشجون التي تذكرني وتسليني بالشيخ رحمه الله تعالى، ومن واقع ما كان يربطني بشيخنا رحمه من العلاقة الطيبة، والتواصل المبارك بحمد الله، كانت لي معه رفع الله قدره وبرَّد ضجيعه مواقف خالدة ومؤثرة في نفسي، أسوق منها على عجل بعضها، تسلية لنفسي ونزولاً لرغبة إخواني:
الموقف الأول: كان شيخنا رحمه الله كثيراً ما يذكر في دروسه وكلماته الطيبة، العناية بالقراءة عند الأشياخ وأهمية ذلك، لكبير منفعتها، وذات يوم عرضتُ عليه ذلك فاعتذر لانشغاله، وكان العرض سريعاً لم يكن فيه أخذٌ ورد.
وذات مرة بعد إحدى الكلمات بعد العشاء، وجدتُ فرصة للدخول على الشيخ في جلسة علمية خاصة، فذهبتُ إليه وهو جالس في محرابه -عادته لاستقبال الأسئلة والإخوان- وجلستُ أمامه رحمه الله رحمة واسعة، فقلت له وكنت أريد إثارة شيء من الغضب عنده وإعلامه بتركي دروسه، وقلت له: شيخنا أنا قرَّرتُ عدم حضور دروسكم، وسأترك مجالس العلم والطلب، وسأنظر ما أنشغل به من الأعمال، وبدأت وكأني مُنزعج من الأمر!
فلتطَّف معي وقال بهدوء مع ابتسامه: "طيب ليش زعلان؟" فأخبرته: تقولون لنا اذهبوا إلى المشايخ واطلبوا العلم عندهم واحرصوا على القراءة عليهم، وإذا أتينا إليكم ما قبلتونا، إذن لا حاجة للطلب والعلم، وكنت أقول هذا والله حقيقة بحرقة، فقال لي: "يا محمد فعلاً أنا ما عندي وقت، والْتَزم هذه الدُّروس -يعني دروسه- واجتهد فيها ففيها خيرٌ وبركة بحول الله"، فأبيتُ، ثم ألححتُ عليه رغبتي للقراءة عليه في (كتاب التوحيد) لابن عبد الوهاب رحمه الله، واقترحتُ على أن يكون فجراً، فإنْ وجد حرصاً أتممنا الأمر وإلَّا فلا، فرضي رضي الله عنه وأسكنه فسيح جناته، وقد كان كريماً جداً، لطيفاً متواضعاً، وبعد قراءة ما يقرب من ثُلث الكتاب، غبتُ مرةً، حتى إذا رآني قبيل درس الدكتور (عبد الله المطرودي) بعد المغرب في الفقه، فإذا به يقول بعد أن ذهبتُ وسلَّمت عليه وقد تبسَّم: "وين الحرص محمد؟"، فضحكتُ، وابتسم، وقال: "تعال غداً نتابع، حتى نُنهي الكتاب".
فأتممتُ بحمد الله تعالى الكتاب، وانتفعتُ به كثيراً، وفتح لي بعض ما أُغلق عليَّ، وأبان ما أَشكَل عندي، وكانت له عناية خاصة بتوضيح مقصد الترجمة بمضامين الباب، وربط المسائل بمقاصدها، تمنيت والله لو طالت تلك الجلسات، ولكن الحمد لله أن وفِّقت لذلك.
الموقف الثاني: كنتُ في زيارة لمكتبة ابن الجوزي أدور بين جنبات أرففها، وأجمع من هنا وهناك بعض الكتب، وأضعها على طاولة البائع، وأعود لاقتناص كتاب وهكذا، وإذا بالشيخ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، يدخل المكتبة ويتوجَّه نحو الإدارة، فلما خرج منها كنت قريباً منها سلَّمت عليه، فسألني: "هل وجدتَ كتباً طيبة جديدة تُشترى؟"، فذكرتُ له بعضها، ثم افترقنا، فذهب وبقيتُ بعده مدَّة، فلما أردت الخروج، وأنهيت الشراء فإذا بالبائع يقول لي: "هذه ثمنها دُفع!"، فقلت: لم أدفع بعد؟ فقال: "الشيخ سلطان دفعها وخلاص، ابسط يا عم"، فعجبتُ للأمر كثيراً، وقلت له ممازحاً أكيد تمزح، ولكن وجدت الرجل بهلجته يقول: "يا مولانا الله يكرمك والله الشيخ قال لا يدفع ريالاً واحداً وحسابها عندي".
فانظر كيف يتعامل هذا الشيخ العالم مع أحد صغار تلاميذه، شآبيب رحمة الله عليه. بقي أن تعرف أنَّ قيمة تلك الكتب التي شريتها جاوزت أربع مئة ريال، فاستحييتُ لذلك، وحاولت أن أُخفِّف منها غير أنَّ البائع قال: "الشيخ قال يأخذ ما يريد، ولا تُرجع شيئاً هو يريده".
فلما عدتُ إلى منزلي قيدتُ على كل هذه الكتب: (هدية من شيخنا سلطان العويد جزاه الله خيراً)، فبالله عليكم كيف تجدون وَجْد مَن فقد شيخاً كهذا العالم عليه؟ رحمك الله شيخنا الغالي وجمعنا وإياك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
الموقف الثالث: وصلني نبأ وفاة سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله ظهر يوم الخميس في المسجد الذي كنت أصلي فيه إماماً، وحِرْتُ كيف السبيل إلى السفر نحو مكة لحضور الجنازة، وكان في يوم الخميس لنا عادة في الخروج للبر مع نشاط مكتبتنا المباركة، إلى ما بعد العشاء، فعزمتُ حين نلتقي بالإخوة أن أحاول طرق موضوع السفر ممن ينشط لذلك، غير أني لم أظفر إلَّا بصاحبي الأثير (عبد العزيز) أسعده الله، وبعد العودة ليلاً، قررتُ وصاحبي الخروج للمطار في ليلة الجمعة بساعة متأخرة، لعلَّنا نجد رحلة مُتَّجهة إلى جدة، فما إنْ وصلنا بالمطار حتى رأيناه مزدحماً بالناس، ولكن للأسف لا طائرات، والرحلة الوحيدة تُجهَزُّ للإقلاع، فأصابتنا خيبة أمل أنا وصاحبي، وبتنا نُفكِّر لو ذهبنا بالسيارة هل نتمكَّن من الوصول قبل الصلاة أو لا؟ والذي كان يزيد مِن لوعتنا أن نرى بعض المشايخ وطلبة العلم يَمُرُّون أمامنا وقد حجزوا مسبقاً للسفر، فنتحرَّق أكثر وأكثر..
حتى رآنا شيخنا أسكنه الله فسيح جناته، فأتي إلينا وسلَّم علينا، وقال: "هل أنتم مسافرون؟" فقلنا: لم نجد حجزاً، فقال: "تعالوا معي"، وسرنا معه في مكان غير مكان الحجز المعروف، وقابلنا أحد الإخوة أظن اسمه عبد الرحمن، وقال له: "يا عبد الرحمن احجز للشباب"، فوالله مباشرة بادر الأخ وحجز لنا، دون أي كلمة، ولا نعرف كيف صار الأمر، وقال: "أسرعوا للبوابة قبل أن تغلق"، ركضنا مسرعين جداً نحوها، وسرنا على أقدامنا للطائرة بسرعة مع الموظف المسؤول، وكنَّا أخر مَن صعدها، وما صدقنا إلا حين أقلعت الطائرة، فجزاه الله خير الجزاء على ذلك.
وأيضاً لك أن تعرف عن هذا الشيخ المفضال، أننا لم ندفع فلساً واحداً قيمة هذه التذاكر. فبالله عليكم، أيُّ رجل كان هذا الشيخ المبارك، وقد رآنا جمعٌ من أهل العلم ممن نعرفهم ويعرفوننا في المطار، إلا أنَّ الحق جلَّ في عليائه أجرى هذا الخير على يد هذا العالم.
وجاء يوم الجنازة، وخيَّم الحزن على ربوع الشرقية، وأُسدل الظلام على أحياء الدمام، برحيل بوابة العلم فيها، تلك البوابة التي كانت وضَّاءة نيِّرة بهذا العالم، يفزع إليه أصحاب السؤلات والحاجات للدخول من خلالها لمقاصدهم ومآربهم، مما يجريه الله على يد الشيخ رحمه الله.
رحمك الله أيها الشيخ الأصيل، ومنبع الخير النبيل، كانت جنازتك مشهودة وموعودة، ولسان حال الكثير يقول ما قاله الإمام أحمد يا أبا أحمد: بيننا وبينكم يوم الجنائز؟
رحمك الله في الأولين والآخرين، وما بقي إلَّا أنْ أختم ببعض ما يُبشر بالخير لشيخنا رحمه الله رحمة واسعة، فوالله ما على مثل الشيخ من حسرة وأسف إلا أُنس مجالسته والانتفاع من علمه، والظنُّ أنَّ ما عند الله خيراً له وأبقى.
ومما نحسن الظن بربنا أنها دلائل خير وبشرى للشيخ رحمه الله، وما هذه البشارات إلا شهادة تُؤدَّى، وستكتب شهادتهم ويسألون، فمِمَّا ورَد في صحاح الأحاديث:
1. الشهادة بالثناء الحسن للمُتوفَّى: يصدِّقه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: «مرُّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال النبِيُّ: "وَجَبَتْ" ثمَّ مرُّوا بأخرى فأثنوا عليها شرَّاً، فقال: وجبت. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً؛ فوجبت له الجنَّة، وهذا أثنيتم عليه شرَّاً، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض» [5].
2. شفاعة المصلين لاسيَّما أهلُ التوحيد للمُتوفَّى: ويدل لهذه الشفاعة أحاديث: - حديث عائشة رضي الله عنهما، عن النبيِّ قال: «ما من مَيِّت يُصلِّي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مئة، كلُّهم يشفعون له إلا شُفِّعوا فيه» [6].
- وحديث ابن عباس رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله: «ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئاً إلَّا شَفَعهم الله فيه» [7].
- وحديث مالك بن هُبيرة قال: قال رسول الله: «من صلَّى عليه ثلاثةُ صُفوفٍ فقد أَوْجبَ» [8]، أي: الجنة.
وقد كانت هذه الثلاثة متحققة من فضل الله تعالى على شيخنا رحمه الله، فقد كانت الجنازة حافلة مشهودة، شهدها كثيرٌ من أهل العلم والفضل والتلاميذ وامتدَّت الصُّفوف في الطُّرقات، وقد تزاحم الناس على حمل نَعْشه، والسير في جنازته، وبات من الصعب جداً الوصول للمقبرة أو الوصول إليها، وما خرج المشيعون إلا مع صلاة المغرب من المقبرة، جزاهم الله خيراً.
3. والختم على عمل صالح: وقد تَرْجم ابنُ حبَّان في (الصَّحيح)، فقال: ذِكْر الإخبار بأنَّ مَن وُفِّق للعمل الصالح قبل موته كان ممن أُريد به الخير، وساق حديث أنس بن مالك، أنَّ النبي قال: «إذا أراد الله بعبدٍ خيراً يستعمله قيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يُوفِّقه لعمل صالح قبل الموت» [9].
ثُمَّ تَرْجم ثانيةً فقال: ذِكْر الإخبار بأنَّ فَتْح الله على المسلم العمل الصالح في آخر عمره من علامة إرادته جلَّ وعلا له الخير، وساق حديث عمرو بن الْـحَمِق الخزاعي قال: قال رسول الله: «إذا أراد الله بعبد خيرا عَسَلَهُ قبل موته" قيل: وما عسلُه قبل موته؟ قال: "يُفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يَرْضى عنه» [10].
ثم ترجم ثالثة فقال: ذِكْر البيان بأنَّ العمل الصالح الذي يُفتح للمرء قبل موته من السَّبب الذي يُلْقِي الله جلَّ وعلا محبَّته في قلوب أهله وجيرانه به، وساق حديث عَمْرو بن الْـحَمِق الخزاعي قال: قال رسول الله: «إذا أراد الله بعبد خيرا عَسله قبل موته" قيل: وما عسلُه؟ قال: "يُفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يَرْضى عنه» [11].
وحسبك أن الشيخ كان قد عاد من المدينة المنورة، بعد جملة من الطاعات والأعمال الصالحة، نحسبه كذلك والله حسيبه.
هذه إلماعةٌ عاجلة بخواطر عابرة مع وعن هذا العالم الرَّباني، وهي بعضٌ من بعضٍ ممَّا تميَّز به، فهكذا كان، وهكذا فلنكن، ولعل ممن هم أقرب وأخير وأفضل مني من يسطر الكثير عن الشيخ رحمه الله وحياته وعلمه وفضله ومكانته، حتى تنتفع الأمة، ويكون في ذلك بعض وفاء للشيخ رحمه الله تعالى.
فاللَّهُمَّ اغفر لشيخنا ومُعلِّمنا ذنبه، واستُر عيبه، وضَعْ عنه وِزْره، وأرفع له ذِكْره، واجعل له لسان صِدْقٍ في الآخرين، واجمعنا به مع النَّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً. اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين.
إذا ما مات ذو عِلْمٍ وتقوى *** فقد ثَلُمت من الإسلام ثُلْمة وموتُ الحاكم العَدْل الُمولَّى *** بحكم الشَّرْع مَنقصةٌ ونِقْمة وموتُ العابد القَوَّام ليلاً *** يُناجي ربَّه في كلِّ ظُلْمة وموت فتى كثيرُ الجود محضٌ *** فإنَّ بقائه خيرٌ ونِعْمة وموتُ الفارس الضِّرْغام هدمٌ *** فكم شَهِدت له في الحرب عَزْمة فحسبك خمسة يبكى عليهم *** وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة وباقي الناس هم همجٌ رعاع *** وفي إيجادهم لله حكمة
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تلميذك الدَّاعي لك بالرحمة والمغفرة والرضوان
د. محمد بن يوسف الجوراني العسقلاني
M_aljorany@hotmail.com
------------------------------------------------------- [1] النُّبوغ في العلوم والفنون ضمن موسوعة الأعمال الكاملة ( 5/2146) [2] الرد على الزنادقة والجهمية (170) [3] مدارج السالكين (3/ 78) [4] ابن قيم الجوزية حياته وآثاره (2) [5] أخرجه البخاري (1367) ومسلم (949) (60) [6] أخرجه مسلم في الصحيح (947) [7] أخرجه مسلم في الصحيح (948) [8] أخرجه الترمذي في (1028)، وابن ماجه (1490) والحاكم في مستدركه (1/516) وقد ضُعِّف من أجل عنعنة ابن إسحاق، وليس بشيء؛ فقد صرَّح بالتحديث في مسند الروياني (1537) وإسناده حسن، حسَّنه الترمذي، والنووي في المجموع (5/212)، وأقرَّه الحافظ في الفتح (3/187) فكان مالكٌ: إذا استقلَّ أهلَ الجنازة جزَّأهم ثلاثةَ صفوف للحديث. [9] أخرجه ابن حبان في الصحيح (341) وإسناده صحيح. [10] أخرجه ابن حبان في الصحيح (342) وإسناده صحيح. [11] أخرجه ابن حبان في الصحيح (343) وإسناده صحيح.
............................................ المصدر: موقع صيد الفوائد