|
|
شبكة المرابط الاسلامية - - الجمعة 13 / 11 / 2020 - 08:09 صباحاً |
|
زمان الصبر أنور الداود النبراوي
ما أحوجَ المرء في هذا الزَّمان - وفي كلِّ زمان - أن يعيشَ متأمِّلاً ومتدبِّرًا لآيات الرحمن، كثيرَ الوقوف مع ما فيها من دروسٍ وحِكَم وبرهان!
ولعلَّ أبرز تلك الوقفات مناسَبةً في زمان الصَّبر هو الوقوف طويلاً عند قولِ المولى - تبارك وتعالى -: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]، لا سيَّما ونحن نتأمَّل واقِعَ الناس اليوم، فنرى آلامًا واحتدامًا، ونعايش مِحَنًا وفِتنًا، ونقاسي ألوانًا من البلايا والرَّزايا، ونسمع ونشاهد أمورًا عظامًا، أراقَتِ الدِّماء، ونَخَرت العظامَ، وأدارت الفوضى، وأرَّقَت النُّفوس والأنفاس، وجعلت أشخاص الإنسانيَّة شخوصًا مُترامية، وأخرى متألِّمة دامية، وتقول في حزن وذُهول: لماذا كلُّ ذلك؟!
أمَّا المؤمن الموفَّق فلا يغيب الذِّهن منه - وهو في موقِفه ذلك - عن قول الله - جلَّ وعلا -: ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11].
نعم، ففي البلاء عافية، وفي المِحنة منحة، ووراء الذُّل والظُّلمة عزٌّ ونور؛ لأنَّ الله هو الذي قدَّرَ وأراد، وهو الذي يقضي ويشاء، وهو - سبحانه وتعالى - يقول: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216].
ثم إنَّ تلك الخيريَّة الْمُضيئة كحال ذلك المَجد المنير، لا يُمكن الوُصُول إليه إلاَّ بالصبر الجميل: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً ﴾ [المعارج: 5]، وبالصبر الطَّويل: ﴿ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ﴾ [آل عمران: 200]؛ لأنَّهما الطريقُ الشَّائك والصحيح، الذي يوصل الإنسان إلى حياة المَجد، والنَّجاح، والفلاَح. لاَ تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا
فهذا هو قدْرُ المرء في هذه الحياة الدُّنيا، دار الكَدِّ والكدح، ومسكن التَّعب والنَّصَب: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6]، لقد خلق الله الإنسان؛ لِيُكابد البلاء والشَّقاء والعناء؛ ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4].
وهو كذلك منذ اللَّحظة الأولى من مولدِه، أخلاطٌ وأمشاج قادمة من الأبوَيْن، يأتي التقرير من ربِّ العالمين بأنَّه سوف يُصارِعُ الْمَصاعب والمتاعب، ويواجِهُ الاختبار والابتلاء؛ ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ﴾ [الإنسان: 2].
لا مفَرَّ لبني آدم جميعًا من الابتلاء، في الشِّدة كانوا، أم في الرَّخاء؛ فلأَجْل ذلك كان الموت وكانت الحياة، ولأنَّه تعالى العزيزُ الذي لا يُعْجِزه شيءٌ، الغَفور لمن تاب مِن عباده، فقد خلق الموتَ والحياة؛ لِيَختبر الناس أيُّهم خير وأخْلَص عمَلاً؛ ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2].
ولأجل ذلك الامتحانِ قامت السماء والأرض؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [هود: 7]، بل كلُّ ما في هذه الحياة، وكلُّ ما نرى ونُبْصِر على هذه الأرض يشير إلى تلك القضيَّةِ العظمى؛ ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [الكهف: 7].
اختبارٌ لِمن هو أحسَنُ لله طاعةً وعملاً، وهو ما كان خالصًا لله، لا مُوافِقًا لِحُظوظ النَّفس أو للشِّعارات الأرضيَّة، وهو ما كان أيضًا موافقًا لما كان عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا موافقًا لكلِّ وسيلة يُبْغِضها الله ورسولُه، فإنَّ "الغاية لا تُبَرِّر الوسيلة"، وإنْ نَجحتْ تلك الوسائل مرارًا وتكرارًا، فإنَّه نَجاحُ مرحلة.
وما دام هذا هو حال الدُّنيا، فهل يَمْلك الإنسان لِمُواجهة بلائها إلا الصَّبْر، خاصَّةً وقد جاءت البُشْرى بالْخَيرات من ربِّ العالَمين للصَّابرين على نَقْص الأموال والأنفُس والثَّمرات، قال - سبحانه وتبَارك وتعالى -: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].
وحادي الصابرين في صبْرهم هو معرفتُهم بربِّهم - جلَّ وعلا - وإدراكُهم لحقيقة أنفسهم: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، إنَّهم عبيدٌ لله، وله مَمْلوكون، وإليه صائرون وراجعون، فكان جزاءُ الصَّبْر والتسليم؛ ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157].
ثُم ماذا لَهم من ربِّهم لما صبروا على البلاء؟ وماذا عليهم لما سخطوا؟ عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رَضِي فله الرِّضا، ومَن سخط فله السُّخط))؛ رواه التِّرمذي وابن ماجَهْ، وحسَّنَه الألباني.
ثم إنَّ البلاء قرينُ العبد، ليس له جِهَة أو موطنٌ فيُجتنَب أو يتَّقى، فهو يأتي من أقرب الناس؛ يأتي للزَّوج من زوجته، وللزَّوجة من زوجها، ويأتي للأخِ من أخيه، ويأتي للابنِ من أبيه، وللأبِ من ابنه، ويأتي للحاكم من مَحكومه، وللمحكوم من حاكِمه، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20]، فالله بصيرٌ بالصابرين؛ بصيرٌ بصبْرِهم، ثم بصير بِما يستحقونه من الجزاء، فإنه فوق ما يتخيَّل البشر؛ ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وبصير أيضًا هو - جلَّ وعلا - بِمن ظلَم الصَّابرين؛ ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227].
فلا بد من الصَّبر، ومن لَم يُرْزَق الصبر جبِلَّةً، فعليه أن يُجاهد نفسه على الصَّبْر، وأن يتصبَّر؛ فإن الصبْر أعظم عطاء، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاء خيرًا وأوسع من الصبر))؛ متفق عليه.
ثم إنَّ الصبر قَرينُ الشِّدة والكرب، فمهما ادْلَهمَّت الكروب، وضاقت الدُّروب على الناس، وازدادت ظلمة الليل، فإنَّ الفجر قادمٌ يلوح بالنُّور والضياء والفرج القريب. ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا فُرِجَتْ وَكُنْتُ أَظُنُّهَا لاَ تُفْرَجُ
عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - قال النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((واعلم أن الصَّبر على ما تَكْره خيْرٌ كثير؛ فإنَّ النصر مع الصَّبْر، وإن الفرَجَ مع الكرب، وإنَّ مع العسر يُسرًا))؛ رواه أحمد وصحَّحه الألبانِيُّ، وكلُّ عُسْر في الدُّنيا لا بُدَّ أن يحيط به يُسْران؛ كما في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5 - 6]، بمعنى أنَّ العسر ذُكِر بصيغة التَّعريف في الآيتين؛ فهو واحدٌ، أمَّا اليُسْر فذُكِر مُنكَّرًا فيهما؛ فهو اثنان، فمع كلِّ عُسْر يُسْران. إِذَا ضَاقَتْ بِكَ الدُّنْيَا فَفَكِّرْ فِي "أَلَمْ نَشْرَحْ" فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ تَأَمَّلْ فِيهِمَا تَفْرَحْ
• • •
وبالصبر تُنال معيَّة الله وحِفْظه، ورعايتُه وكفايته، كما يُستَمْطَر النَّصْرُ والتأييدُ من المولى - عزَّ وجلَّ - بالصبر والصلاة؛ يقول - تبارك وتعالى -: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153].
فهما النُّور والضِّياء للعبد في طريقه إلى ربِّه، وفي تدبيره لأمور دينه ودنياه، وهُما للمرء كالشمس والقمر، جاء عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصَّلاة نورٌ، والصَّدَقة بُرهان، والصَّبر ضياء))؛ رواه مسلم، بِمعنى أنَّ الصلاة بِها تَرتاح وتَبْرد النَّفْس، كما هو الْحال في نور القمر الذي لا حرارةَ معه، ﴿ وَقَمَرًا مُنِيرًا ﴾ [الفرقان: 61]، فهو كوكبٌ بارد، يَعْكس ضوء الشَّمس، فإذا صلَّى الإنسان وسجَد على الأرض خرجَت الشَّحْنات الكهربائيَّة والحرارةُ من جسده إلى رأسه، ومِنْه إلى الأرض، حينَها يشعر العبد براحةٍ وتَخفيف لِما يُعانيه من ضغط الحياة والْهُموم والقلق؛ ولذلك جاء عن سالِم بن أبي الْجَعد - رضي الله عنه - قال: قال رجلٌ من خُزاعة: ليتَنِي صلَّيْتُ فاسترَحْت، فكأنَّهم عابوا ذلك عليه، فقال: سَمِعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((أقم الصلاة يا بلال! أرِحْنا بها))؛ رواه أبو داود، وصحَّحه الألباني.
وكذلك الحال في الصَّبْر؛ فإنَّ فيه حرارةً وحبْسًا للنَّفس عن التسخُّط والجزع والألَم، وغير ذلك، لكنَّ عاقبته حميدةٌ كحال الشَّمس الساخنة، رغم أنَّها نَجْم متوهِّج يشعُّ ضوءًا وحرارةً؛ ﴿ سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾ [النبأ: 13]، فهي ترسل أشعَّتَها الورديَّة الحانية إعلانًا بالدِّفء والحيويَّة والنَّماء، قال - تبارك وتعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ [يونس: 5].
وقصَصُ نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع الصَّبْر مَضْرِبٌ للمثل، ورغم ذلك يُؤمَر - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالصَّبْر، وهو إمام الصَّابرين؛ قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ [الأحقاف: 35]، فصبَرَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أذى قومه واتِّهامِهم له، ورَمْيِهم إيَّاه بالجنون والسِّحر والكذب والكهانَة، وصبَر على تعييرهم له بأنه "أبْتَر"، وتسميتهم له بـ "مذمَّم" بدلاً من "محمَّد"، وصبر على كيدهم ومكْرِهم، وتدبيرهم لِقَتْلِه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
وحُوصر - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الشِّعْب يأكل من ورق الشَّجر، ومع ذلك كان صابرًا مُحتسبًا حتى ذاق ثَمرات الصبر رِفعةً في الدُّنيا والآخرة، فكانت النتيجة أنَّه لَمَّا ظفر بأعدائه حين فَتْح مكة قال لهم وقد تمكَّن منهم: ((اذْهَبوا فأنتم الطُّلَقاء))؛رواه ابن هشام في "السيرة"، وحسَّنه ابنُ حجَر، وهكذا عاش - صلَّى الله عليه وسلَّم - عظيمًا في كلِّ أموره، قال سبحانه: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 4]، بل له الدرجة الرفيعة في الجنَّة، والتي لا تكون لأحدٍ غيره.
وكما صبر - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أعدائه، صبر أيضًا على شظَفِ العيش، فكان يرقِّع ثوبَه، ويَخْصِف نعْلَه، ويحلب الشَّاة، ويعلف البعير[1]، ويلبس الثَّوب المرقَّع[2]، ويمرُّ الْهِلال والْهلال والهلالُ - ثلاثة أهلَّة - وما يُوقَد في بيتِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - نارٌ؛ سُئِلت عائشة - رضي الله عنها وأرضاها -: ما طعامكم؟ قالت: "الأسودان؛ التَّمر والماء"[3].
وكذلك صبر أصحابه - رضي الله عنهم - أجمعين - على اللأْواء، فكان الواحِدُ منهم يضع الحجَر والحجرَيْن على بطنه يتَّقي الجوع.
والصبر للإيمان كالرأس للجَسد، كما قال عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "الصَّبْرُ مِنَ الإيمانِ كَالرَّأْسِ مِنَ الْجسَد، فإيمانٌ بلا صبْر كجسدٍ بلا رأس؛ ولا إيمانَ لمن لا صبر له"؛ ولذلك جاء في القرآن ذِكْرُ الصَّبر مقرونًا بالإيمان في مواضِعَ كثيرة:
يقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾ [هود: 9 - 10]؛ أيْ: ولئن بسَطْنا للإنسان في دُنياه، ووسَّعنا عليه في رِزْقه بعد ضيق من العيش، ليقولَنَّ عند ذلك: ذهب الضِّيق عني، وزالت الشدائد، إنه لبَطِرٌ بالنِّعَم، مُبالِغٌ في الفخر والتَّعالي على الناس، ثم استثنى الله من هؤلاء أهل الإيمان والصبر، فقال تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود: 11]؛ أيْ: لكن الذين صبروا على ما أصابَهم من الضرَّاء؛ إيمانًا بالله واحتسابًا للأجر عنده، وعملوا الصالحات؛ شُكرًا لله على نِعَمِه، ﴿ أُولَئِكَ ﴾ موعودون بالبشرى العظيمة: ﴿ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ﴾، أيْ: مغفرة لذنوبِهم؛ لأنه قد يقع في النفس من القصور والألم والتسخُّط ما يَحتاج معه الإنسانُ للمغفرة، ﴿ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾؛ أيْ: وأجر عظيم في الآخرة، بغير حدٍّ ولا عدٍّ ولا مقدار، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وتأمَّل! لَم يقل: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، بل قال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾؛ لأنَّ مِن أعظم خصائص الإيمانِ الصَّبْرَ، وذِكْرُ الصبر يدلُّ على الإيمان أيضًا.
والصبر من علامات السعادة، يقول ابن القيِّم - رحمه الله -: "عنوان سعادة الْمَرء ثلاثة: إذا أُعْطي شكَر، وإذا ابْتُلِي صبَر، وإذا أذنب استغفر".
كما يقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يرزقنا الصَّبْر، والحمدُ لله الذي تتمُّ بنعمته الصالحات، والصلاة والسَّلام على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
[1] أخرجه أحمد (6/241) من حديث عائشة - رضي الله عنها - وصحَّحه الشيخ الألبانِيُّ - رحمه الله - في "الأدب المفرد" (541).
[2] أخرجه أحمد في "الزُّهد" (139) من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قُبِض رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذَيْن الثوبَيْن"، وكانت قد أخرجتْ إزارًا غليظًا مِمَّا يُصنع باليمن، وكساءً من هذه التي تدعونَها الْملبَّدة؛ يعني مرقَّعًا.
[3] أخرجه البخاري (2567)، ومسلم (2972) من حديث عائشة - رضي الله عنها.
|
|
|
عرض الردود
|